اسم القصة: ابن الدهليز
مدى القصة: قصيرة
نوع القصة: أدبية
رقم القصة المصحفة أدبيًّا: 7
تاريخ النّشر: 2/8/19 أدبي.


-أمي، انتي رجعتيِ؟
-ايواة، رجعت عشانك.
أدبر النهار، وسجى الليل متلهفًا يوزع قُبلاته على العاشقين، ويشَّد بأزر أفئدة المتمضين؛ وفي جنحه يتلألأ قمره، ليضيء بقاع العالمين، وجلسات الشباب التي لا تخلو قط من قهقهاتهم؛ وخاصة اجتماعهم عند بائعات الشاي. 
في إحدى ليالي الشتاء القارس والمضني، تسللتْ نسمة باردة، واخترقتْ الطرق في الوصول إليَّ، تسربلتْ عبر ذلك الحبل السري الرفيع؛ الذي يربط بيني وبينها، ممَّا تسبب ليِّ برعشةٍ جعلتني أرتجف، فأنَّتْ هي إثر ذلك، إنها ليلة التاسع من فبرايرِ، ولقد حانت لحظات المخاض والولادة، لن تسمع فيها أيَّة صوت غير صرخاتها، ولعناتها؛ التي كانت تطلقها أمي لحظتذاك، هي لا تدري بأن كلماتها؛ قد كانت تسممني، وخاصةً عند سماعي لأحرفها المتقطعة المملوءة بالمضض، والأسى:
-"يا رب تموت، يا رب استرني وما يطلع حي".
كانت صرخاتها تلك تنم بشيءٍ من الامتغاض، إلى أن لفظتني، وتعالتْ صرخاتي، لحظتئذ وَهِن صوتها وانخمد، وحينما رأتني اشمأزت مني، قذفتني كشيء ٍقذر، رمتني في مزبلة الحي المجاور.
فصرختُ يومئذ لبداية ظننتها النهاية، لبداية بين تلك الأنقاض والروائح النتة، معتقدًا أن الحياة ما هي إلا مكب نفايات كبير، ونحن قمامة فقط نتنفس الهواء؛ فقد تركتني تلك الفتاة العشرينية هناك مُلتفًا بكيس من النايلون، طالبًا الاستغاثة، عمن يخرجني من هنا.
أيَّ خطيئة تلك التي اقترفتها؛ لتتركني هكذا، أو لِمَ عليَّ أن أحمل وزرها؟ 
أي طالع سيء هذا الذي كُتب لي؟
أيَّ حظ تعيس؛ يمر شريطه أمامي وقبل أن أعيشه، لأنادى ب(ابن الخطيئة)؟
فما بين صرخاتي وصراعي ونزاعي بين برزخ الحياة والموت؛ سمعتُ وقع خطوات ثقيلة تخطو ناحيتي، أحسستُ بثمة يد دافئة امتدت واجتثتني من لوث، ومكب النفايات ذاك، بحنان ينبعث كضوءٍ منها ضمتني، دثرتني، وبطرف ثوبها زملتني، شعرتُ بدَّقات قلبها بل وسمعتها، بعد أن مررتْ بيدها على وجهي، ونظفتني؛ قبلتني وقتها توقفت عن البكاءِ، فتناهى إلى سمعي كلماتها المرتجفة:
-"ذنبك شنو، عشان تجي في عالم قاسي زي دا؟"
رفعت بثوبها ودثرتني جيدًا ثم أردفت حديثها:
-"اسمح لي اسميك (عبدا لله) ومن الليلة اسمك من اسمي، وألمك من ألمي".
شعرتُ بثمة دفء ينبعث من كلماتها تلك، وكلما فعلتُه لحظتها هو الاختباء في حضنها أكثر.
ألقمتني الحنان من نهديها، وهبتني اسمًا، مضتْ السنوات، تربيت تحت كنفها، أصبحت أمي، واسمها زينب.
كانت أمي أرملة توفى عنها زوجها وهي حُبلي بابنتها، والتي تكبرني بأربع أشهر، تشاركنا الثدي ذاته؛ تبيع "الشاي واللقيمات" أمام فرن الحي المجاور لحينا الفقير، الذي يشكو ضنك المعيشة، فلا رزق لها إلا في الحي المجاور، ما إن ينبلج فجر اليوم حتى تكون قد عدت عدتها وتهيأت للخروج فلا نجدها تعود إلا بعد الغسق، وبعد شجاري مع أخي؛ أصبحت رفيقها، تأخذني معها أينما حلَّت، وتنادي عليَّ "قطعة حياة مني" تخاف عليَّ من ظلها، تخاف عليِّ من أيَّة شيء حتى أخوتي خشية أن يتعرضوا لي بالكلمات.
فقد قال لي أخي الكبير أحمد مرةً: "بأنني مجرد لقيط من مكبات النفايات، وأن أمي مجرد امرأة رخيصة سلمت نفسها لذئب نهشها؛ فحملت بي وقذفتني كرذيلةٍ أواجه الموت، ولولا والدته لكنت في عداد الموتى"
كنت صغيرًا لا أفقه شيء مما قاله، إلا أن طريقته في الحديث إليَّ، كانت تخفي ورائها قدرًا كبيرا من الكراهية، شعرت بحنق وضيق، واعترضت مجرى الحروف في حلقي غصة جعلتني استسلم للبكاء، فبكيت يومها دون رغبة مني وبملء صوتي، وحينما عادت أمي من العمل وجدتني ملتحف الأرض، وأرتجف، وقتها رأت مقلتي متورمتين ومحمرتين، فسألتني في وجل:
-"عبدا لله مالك في شنو يا ولدي؟!"
حاولت إنكار كل شيء؛ فقد هددني أحمد مسبقا بالذبح بعد أن وضع نصل السكين على عنقي، قلت لها:
-"ما في حاجة، بس في تراب دخل في عيني".
لم تصدقني البتَّة أصرتْ على معرفة ما أخفيه عنها، فنادت على أخي علي فلما أخبرها بتهديدات أحمد وما قاله لي، صفعته ووبخته ومن هنا بدأ خوفها.
وفي أحد أيام صيف أبريل، شجر شجار بينها وبين أحد الزبائن؛ الذي لم يعطها النقود لمدة عام كامل، بحجةٍ أنه لا يملك النقود ولكنه يعدها في كل مرة بأنه سيحضرها في المرة المقبلة، هذه المرة أتى مختلفًا عن كل سابقه، وبينما أنا ألعب خلفها، سمعت صوت كسر، عندما التففت ناحية الصوت وجدت ذلك الرجل السكير قد كسر برطمان السكر على رأس أمي، ورمى ببقية البرطمانات على الأرضِ، ركضت بناحية أمي لأحميها من بطش زير النساء ذلك؛ والذي جاء هذه المرة طالبًا قهوة تعيد إليه توازنه بعد ليلة قضاها في كنف نساء عاريات وهم سُكارى، للمرة الأولى ترفض أمي أن تعطيه القهوة، وهددته بإخبار الشرطة فانهال ضربًا عليها، اندفعت ناحيته لئلا يقوم بقتلها؛ لأدرأ بطشه عنها، ولكني وجدتُ نفسي مُلقى على الأرض، وأمي من فوقي تحتضني، والدماء تسيل من رأسها، نهضت في هلعٍ، صارخًا وباحثًا عن ذلك الجبان، إلا أن الجميع أنكروا رؤيته ووجوده في ذلك المكان، ثم شهدوازورًا، وظلمًا على أمي، ومنعوها من أن تعمل في حيِّهم مرةً أخرى.
لم تكن أمي قوية حتى تحتمل ضرباته القوية تلك، فوهنت وضعفت خارت قواها، وبعد أيام قليلة أصابتها حمى مُفاجئةِ، لم نكن نملك النقود الكافية لعلاجها، وبينما هي في تلك الحالة، كان أحمد يحاول إبعادي عنها، إلا أنها كانت تحتضني بقوة، وترفض تركي له.
لم تصمد أمي للمرض كثيرًا وبعد أسبوع ارتفعت حرارتها، وتعالى رسيس الحمى ويكأنه يفتخ بجسدها، نادت على أخوتي أحمد وعلي وفاطمة، آست في نظراتها علينا، وعيناها حبلى بالدمع والشفقة، حكت لي حقيقة قصتي، طفلٌ بعمر العشرة ربيعًا لن يفهم ما تقوله، ولكني علمتُ فقط بأنها ليست من أنجبتني، ولكنها أمي، ثم ختمت كلماتها بأية ما زالت يتردد صداها عليَّ:" بسم الله "ولا تزر وازة وزر أخرى" ما تقسو على عبدا لله بعد ما أموت، وما تعاقبوه على خطأ ما ارتكبوا، حبوه، أنتو أخوانه ما في زول حيحبو غيركم، أحمد بوصيك أنت عليه وعلى فاطمة لأنك الكبير، علي خلي بالك من أخوانك لأنك الحنين".
اشتدَّ الوجع عليها، أنَّتْ للحظة ثم استطردت قائلة:
-"أشهد أن لا إله إلا الله، وأن محمد رسول الله".
بعد ذلك توقفت عيناها عن الرمش، وقلبها عن النبض، كانت أعيينا تطفر بالدمع، لرؤية ذلك المنظر.
ترحل أمي، فارتحل الغيم، وأفل النجم، وجَّف البحر في صدري، بكى الحجر، وبكى من بكى على رحيل ذلك الفؤاد الأبر، فاضت روحها تاركة وراءها ثلاثة أيتام ورابعهم أنا.
بكيتُ يوم رحيلها كأن لم يبكِ أحد من قبل، انتحبت أكثر يوم أن رأيتها مُلتفةً بذلك القماش الأبيض، انكسرت على فراقها أكثر من ذلك اليوم الذي انتشلتني فيه، صفعتني الحياة من الجهة التي استندتُ عليه، قصمت ظهري، ضعفت تجاه فقداني لها.
بعد يومين حضرت شقيقة أمي، عرضت المنزل للبيع، أخذت أخوتي وفصلتني عنهم، سبتني ثم لعنتني، ونعتتني بالكلمة التي بتُ أكرهها "ابن الحرام".
ومنذ ذلك اليوم لم يعد لي مكان يضمني، أصبحت أتردد على قبر أمي كل يومين وعلى مدى شهرين؛ أعاتبها على رحيلها من دوني، أضم ثراها وأقبله، أبكي فوق قبرها، لم يعانقني أو يقبلني أحد، لم يتحدث إلي أية أحد، إلى أن التقيت ب"كاسوفا" واسمه الحقيقي ياسين، أصبح هو صديقي المقرب، وقد كان يمارس طقوس غريبة ومريبة، إلا أنها مريحة حقًّا كما وصفها، تعلمت منه كيف تلف السيجارة وكيفية شربها، في اليوم الأول أحسست بحنقة ولكن شيء فشيء تعودَّت عليها، وتعلمت أيضًا كيف يشرب "السليسيون" كذلك، ولكنه ثمنه كان غير زهيد وصعب على طفل بعمري توفير المال لشراءه، لذا كان عليّ أن أوفر المال لأخذه من "كاسوفا"، ولأن حاجتي إليه أصبحت أقوى، وتقودني إليه بشدَّة فلم يك لدي وقت لأتسول، أو أنظف السيارات كما يفعل أولئك الصالحين في الشارع، علمني "كاسوفا" فن احتراف السرقة، أصبحت محترفًا وماهرًا في أقل من أسبوع، وأخبرني بأن هذه الحياة كالغاب ما لم أكن شجاعا كالأسد، فسأموت كنملةٍ دُهستْ تحت قدم فيل، وأن البقاء للأقوى، كما أوصاني بأن أراوغ كثعلب ماكر، وأصطاد فريستي كذئب غدارَّ.
بيد أنه غدر بي، رغم صداقتي له، فقد وشى بي لأحد ضباط الشرطة؛ بحجةِ أني قد ضايقته في غابته، لم يتردد صاحب البدلة والثلاث نجوم قط في الإمساك بيَّ، فلقد تذكرني جيدًا وأنا لم أنسه حتى، ، فقد وشم هذا السكير الذي تسبب لأمي بالأذى والموت، حاولت الانتقام منه مجددًا، ولكنه صفعني، حتى رماني أرضًا، وقال لي:
-"المرة الفاتت يا ود الشوارع عضيتني زي الكلب السعران، المرة دي أنا بفك ليك كلابي تعضيك"َ.
بدأ يسبني ويلعنني بكلمات نابية، وبذيئة، عام كامل وأنا تحت قدميه وفي سجنه، تلقيتُ تحت يديه أقسى أنواع العذاب؛ حتى ظننت بأنها النهاية لا محال، ففي حر مايو المحرقة يطرحني للرمضاء، وفي شتاء ديسمبر يسكب عليَّ الماء البارد من أعلى رأسي وحتى أخمص قدمي، تسبب لي بحالة نفسية تزداد سوءًا يوم بيوم؛ إلى أن قررت الفرار لإيجاد حياة أخرى رُبما إن كانت هناك حياة، قد تكون أقسى من تلك التي عايشتها، انتظرت ليلة يكون فيها القمر غائب عن سماءنا، هربت عبر تلكم البوابة الحديدة، ركضتُ ولم أعلم أين قد تجر بي الخطى، إلى توقفت أمام المسجد، تذكرت أمي حينما علمتني الصلاة وأوصتني بها، جلستُ خلف المسجد ونمت على أحد عتباته، والبرد قصم بأواصري وجسدي الهزيل.
أغمضتُ عيني زهاء ساعتين؛ حتى تناهى إلى سمع صوت أذان الفجر، فتحتُ عيناي ببطء؛ لأرى أمي تقف أمامي، بثوبها الأبيض، وعيناها حبلى بالدمع، ولكنها لم تنبس ببنت شفة، ركضت ناحيتها، سألتها متلهفًا:
-"أمي، انتي رجعتي؟"

تعليقات

  1. لقد أبدعت وأجدت وأفدت

    ردحذف
  2. ما شاء الله ما شاء الله
    قصة رائعة مع قصرها فإنها تحمل في طياتها معان غزيرة لدنيانا اليوم، إنهم_أولاد الزنا_ورب الكعبة معذبون بكلمات جارحة وتصرفات شنيعة بسبب ذنب ليسوا مرتكبيه ولا علموا حتى وقت ارتكابه، إلى أين تمشي بنا هذه الحياة!!؟؟ ولماذا لا يفكر الجميع مثل هذه المرأة الصالحة!!؟؟ أم أن الرحمة والحنان نزعا منا فحرمنا الحياة سعيدها ولذتها!؟؟ لنفكر قليلا ولنعلم أن الله هو القائل_وهو أصدق القائلين_""ولا تزر وازرة وزر أخرى""صدق الله العظيم....
    جزى الله الكاتب عنا خير الجزاء، وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين...

    ردحذف

إرسال تعليق

المشاركات الشائعة